فصل: الثَّالِثُ‏: السِّرُّ فِي نُزُولِهِ مُنَجَّمًا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.تَنْبِيهَاتٌ‏:

.الْأَوَّلُ: السِّرُّ فِي إِنْزَالِهِ جُمْلَةً إِلَى السَّمَاء:

قِيلَ السِّرُّ فِي إِنْزَالِهِ جُمْلَةً إِلَى السَّمَاء: تَفْخِيمُ أَمْرِهِ وَأَمْرِ مَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِإِعْلَامِ سُكَّانِ السَّمَاوَاتِ السَّبْع: أَنَّ هَذَا آخِرُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى خَاتَمِ الرُّسُلِ لِأَشْرَفِ الْأُمَمِ، قَدْ قَرَّبْنَاهُ إِلَيْهِمْ لِنُنَزِّلَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَوْلَا أَنَّ الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ فِي نُزُولِ الْقُرْآنِ مُنَجَّمًا اقْتَضَتْ وُصُولَهُ إِلَيْهِمْ مُنَجَّمًا بِحَسْبِ الْوَقَائِعِ لَهَبَطَ بِهِ إِلَى الْأَرْضِ جُمْلَةً، كَسَائِرِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ قَبْلَهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَايَنَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَجَعَلَ لَهُ الْأَمْرَيْن: إِنْزَالُهُ جُمْلَةً، ثُمَّ إِنْزَالُهُ مُفَرَّقًا؛ تَشْرِيفًا لِلْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ‏. ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو شَامَةَ فِي الْمُرْشِدِ الْوَجِيزِ.
وَقَالَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ‏: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، تَسْلِيمًا مِنْهُ لِلْأُمَّةِ مَا كَانَ أَبْرَزَ لَهُمْ مِنَ الْحَظِّ بِبَعْثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ أَنَّ بَعْثَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ رَحْمَةً، فَلَمَّا خَرَجَتِ الرَّحْمَةُ بِفَتْحِ الْبَابِ جَاءَتْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْقُرْآنِ، فَوُضِعَ الْقُرْآنُ بِبَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا لِيَدْخُلَ فِي حَدِّ الدُّنْيَا، وَوُضِعَتِ النُّبُوَّةُ فِي قَلْبِ مُحَمَّدٍ، وَجَاءَ جِبْرِيلُ بِالرِّسَالَةِ ثُمَّ الْوَحْيِ، كَأَنَّهُ أَرَادَ تَعَالَى أَنَّ يُسَلِّمَ هَذِهِ الرَّحْمَةَ الَّتِي كَانَتْ حَظَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْأُمَّةِ‏.
وَقَالَ السَّخَاوِيُّ فِي جَمَالِ الْقُرَّاءِ: فِي نُزُولِهِ إِلَى السَّمَاءِ جُمْلَةً، تَكْرِيمُ بَنِي آدَمَ وَتَعْظِيمُ شَأْنِهِمْ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ، وَتَعْرِيفُهُمْ عِنَايَةَ اللَّهِ بِهِمْ وَرَحْمَتَهُ لَهُمْ؛ وَلِهَذَا الْمَعْنَى أَمَرَ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَنْ تُشَيِّعَ سُورَةَ الْأَنْعَامِ، وَزَادَ سُبْحَانَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِأَنْ أَمَرَ جِبْرِيلَ بِإِمْلَائِهِ عَلَى السَّفَرَةِ الْكِرَامِ وَإِنْسَاخِهِمْ إِيَّاهُ وَتِلَاوَتِهِمْ لَهُ‏.
قَالَ‏: وَفِيهِ- أَيْضًا- التَّسْوِيَةُ بَيْنَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي إِنْزَالِهِ كِتَابَهُ جُمْلَةً، وَالتَّفْضِيلُ لِمُحَمَّدٍ فِي إِنْزَالِهِ عَلَيْهِ مُنَجَّمًا لِيَحْفَظَهُ‏.
قَالَ أَبُو شَامَةَ‏: فَإِنْ قُلْتَ‏: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {‏إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الَقَدْرِ‏} مِنْ جُمْلَةِ الْقُرْآنِ الَّذِي نَزَلَ جُمْلَةً أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ، فَمَا نَزَلَ جُمْلَةً وَإِنْ كَانَ مِنْهُ فَمَا وَجْهُ صِحَّةِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ؟.
قُلْتُ‏: لَهُ وَجْهَان:
أَحَدُهُمَا‏: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ إِنَّا حَكَمْنَا بِإِنْزَالِهِ فِي لَيْلَةِ الَقَدْرِ، وَقَضَيْنَاهُ وَقَدَّرْنَاهُ فِي الْأَزَلِ‏. وَالثَّانِي: أَنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ الْمَاضِي وَمَعْنَاهُ الِاسْتِقْبَالُ‏، أَيْ: يُنَزِّلُهُ جُمْلَةً فِي لَيْلَةِ الَقَدْرِ. انْتَهَى.

.الثَّانِي‏: نُزُولُهُ جُمْلَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا قَبْلَ ظُهُورِ نُبُوَّتِهِ:

قَالَ أَبُو شَامَةَ أَيْضًا‏: الظَّاهِرُ أَنَّ نُزُولَهُ جُمْلَةً إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَبْلَ ظُهُورِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ‏: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا‏.
قُلْتُ‏: الظَّاهِرُ هُوَ الثَّانِي، وَسِيَاقُ الْآثَارِ السَّابِقَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ صَرِيحٌ فِيهِ‏.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيّ: قَدْ خَرَّجَ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَع: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشَرَ خَلَتْ مِنْهُ، وَالزَّبُورُ لِثَمَانِ عَشَرَةَ خَلَتْ مِنْهُ، وَالْقُرْآنُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْهُ» وَفِي رِوَايَةٍ «وَصُحُفُ إِبْرَاهِيمَ لِأَوَّلِ لَيْلَةٍ» قَالَ‏: وَهَذَا الْحَدِيثُ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [الْبَقَرَة: 185]. وَلِقَوْلِهِ {‏إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الَقَدْرِ‏} فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَيْلَةَ الَقَدْرِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَأُنْزِلَ فِيهَا جُمْلَةً إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ أُنْزِلَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ إِلَى الْأَرْضِ أَوَّلُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}.
قُلْتُ‏: لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَى هَذَا مَا اشْتُهِرَ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ فِي شَهْرٍ رَبِيعٍ‏. وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِمَا ذَكَرُوهُ أَنَّهُ نَبِيٌّ أَوَّلًا بِالرُّؤْيَا فِي شَهْرِ مَوْلِدِهِ، ثُمَّ كَانَتْ مُدَّتُهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي الْيَقَظَةِ‏. ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ.
نَعَمْ يُشْكِلُ عَلَى الْحَدِيثِ السَّابِق: مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ‏: أُنْزِلَتِ الْكُتُبُ كَامِلَةً لَيْلَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ‏.

.الثَّالِثُ‏: السِّرُّ فِي نُزُولِهِ مُنَجَّمًا:

قَالَ أَبُو شَامَةَ- أَيْضًا-: فَإِنْ قِيلَ: مَا السِّرُّ فِي نُزُولِهِ مُنَجَّمًا؟ وَهَلَّا أُنْزِلَ كَسَائِرِ الْكُتُبِ جُمْلَةً؟
قُلْنَا‏: هَذَا سُؤَالٌ قَدْ تَوَلَّى اللَّهُ جَوَابَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} يَعْنُونَ كَمَا أُنْزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، فَأَجَابَهُمْ تَعَالَى بِقَوْلِه: كَذَلِكَ أَيْ: أَنْزَلْنَاهُ كَذَلِكَ مُفَرَّقًا {‏لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ‏} [الْفُرْقَان: 32] أَيْ: لِنُقَوِّيَ بِهِ قَلْبَكَ؛ فَإِنَّ الْوَحْيَ إِذَا كَانَ يَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ كَانَ أَقْوَى بِالْقَلْبِ، وَأَشَدَّ عِنَايَةً بِالْمُرْسَلِ إِلَيْهِ، وَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ كَثْرَةَ نُزُولِ الْمَلَكِ إِلَيْهِ، وَتَجَدُّدِ الْعَهْدِ بِهِ وَبِمَا مَعَهُ مِنَ الرِّسَالَةِ الْوَارِدَةِ مِنْ ذَلِكَ الْجَنَابِ الْعَزِيزِ، فَيَحْدُثُ لَهُ مِنَ السُّرُورِ مَا تَقْصُرُ عَنْهُ الْعِبَارَةُ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ لِكَثْرَةِ لِقَائِهِ جِبْرِيلَ‏.
وَقِيلَ: مَعْنَى {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أَيْ: لِحِفْظِهِ، فَإِنَّهُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ أُمِّيًّا لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ، فَفُرِّقَ عَلَيْهِ لِيَثْبُتَ عِنْدَهُ حِفْظُهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُ كَانَ كَاتِبًا قَارِئًا، فَيُمْكِنُهُ حِفْظُ الْجَمِيعِ.
وَقَالَ ابْنُ فَوْرَكَ‏: قِيلَ: أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ جُمْلَةً؛ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى نَبِيٍّ يَكْتُبُ وَيَقْرَأُ وَهُوَ مُوسَى. وَأَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ مُفَرَّقًا لِأَنَّهُ أُنْزِلَ غَيْرَ مَكْتُوبٍ عَلَى نَبِيٍّ أُمِّيٍّ‏.
وَقَالَ غَيْرُهُ‏: إِنَّمَا لَمْ يَنْزِلْ جُمْلَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ مِنْهُ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا أُنْزِلَ مُفَرَّقًا، وَمِنْهُ مَا هُوَ جَوَابٌ لِسُؤَالٍ وَمِنْهُ مَا هُوَ إِنْكَارٌ عَلَى قَوْلٍ قِيلَ أَوْ فِعْلٍ فُعِلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏: وَنَزَّلَهُ جِبْرِيلُ بِجَوَابِ كَلَامِ الْعِبَادِ وَأَعْمَالِهِمْ، وَفَسَّرَ بِهِ قَوْلَهُ: {‏وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ‏} [الْفُرْقَان: 33] أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ‏.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْآيَةَ تَضَمَّنَتْ حِكْمَتَيْنِ لِإِنْزَالِهِ مُفَرَّقًا‏.
تَذْنِيبٌ‏: مَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنَّ سَائِرَ الْكُتُبِ أُنْزِلَتْ جُمْلَةً- هُوَ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَعَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، حَتَّى كَادَ أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعًا‏، وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ فُضَلَاءَ الْعَصْرِ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ‏: إِنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلِ الصَّوَابُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ مُفَرَّقَةً كَالْقُرْآنِ‏.
وَأَقُولُ‏: الصَّوَابُ الْأَوَّلُ‏، وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ آيَةُ الْفَرْقَانِ السَّابِقَةُ‏.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏: قَالَتِ الْيَهُودُ‏: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، لَوْلَا أُنْزِلُ هَذَا الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى مُوسَى، فَنَزَلَتْ‏.
وَأَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ بِلَفْظ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ.
فَإِنْ قُلْتَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ، قَوْلُ الْكُفَّارِ؟‏.
قُلْتُ‏: سُكُوتُهُ تَعَالَى عَنِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ وَعُدُولِهِ إِلَى بَيَانِ حِكْمَتِهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَلَوْ كَانَتِ الْكُتُبُ كُلُّهَا نَزَلَتْ مُفَرَّقَةً لَكَانَ يَكْفِي فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولَ‏: إِنَّ ذَلِكَ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى الرُّسُلِ السَّابِقَةَ، كَمَا أَجَابَ بِمِثْلِ ذَلِكَ قَوْلَهُمْ: {‏وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ‏} [الْفُرْقَان: 7]، فَقَالَ {‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لِيَأْكُلُونِ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ‏} [الْفُرْقَان: 20] وَقَوْلُهُمْ {‏أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الْإِسْرَاء: 94]، فَقَالَ {‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ‏} [يُوسُفَ: 109] وَقَوْلُهُمْ: كَيْفَ يَكُونُ رَسُولًا وَلَا هَمَّ لَهُ إِلَّا النِّسَاءُ؟ فَقَالَ {‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَةً‏} [الرَّعْد: 38]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ‏.
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ- أَيْضًا- قَوْلُهُ تَعَالَى فِي إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَى مُوسَى يَوْمَ الصَّعْقَة: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}، {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ‏‏} [الْأَعْرَاف: 144- 145] {‏وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ‏} [الْأَعْرَاف: 150] {‏وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ‏} [الْأَعْرَاف: 154] {‏‏وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ‏‏} [الْأَعْرَاف: 171]، فَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى إِتْيَانِهِ التَّوْرَاةَ جُمْلَةً‏.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏: أُعْطِيَ مُوسَى التَّوْرَاةَ فِي سَبْعَةِ أَلْوَاحٍ مِنْ زَبَرْجَدٍ، فِيهَا تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ وَمَوْعِظَةٌ، فَلَمَّا جَاءَ بِهَا فَرَأَى بَنِي إِسْرَائِيلَ عُكُوفًا عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ رَمَى بِالتَّوْرَاةِ مِنْ يَدِهِ فَتَحَطَّمَتْ، فَرَفَعَ اللَّهُ مِنْهَا سِتَّةَ أَسْبَاعٍ وَبَقِيَ مِنْهَا سُبْعٌ‏.
وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، رَفَعَهُ قَالَ‏: «الْأَلْوَاحُ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى كَانَتْ مِنْ سِدْرِ الْجَنَّةِ، كَانَ طُولَ اللَّوْحِ اثْنَيْ عَشَرَ ذِرَاعًا».
وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ الْفِتُونِ- قَالَ‏: أَخَذَ مُوسَى الْأَلْوَاحَ بَعْدَمَا سَكَنَ عَنْهُ الْغَضَبُ فَأَمَرَهُمْ بِالَّذِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ مِنَ الْوَظَائِفِ، فَثَقُلَتْ عَلَيْهِمْ، وَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا بِهَا حَتَّى نَتَقَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ، وَدَنَا مِنْهُمْ حَتَّى خَافُوا أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ، فَأَقَرُّوا بِهَا‏.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الْحَجَّاجِ، قَالَ‏: جَاءَتْهُمُ التَّوْرَاةُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَكَبُرَ عَلَيْهِمْ، فَأَبَوْا أَنْ يَأْخُذُوهُ حَتَّى ظَلَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ فَأَخَذُوهَا عِنْدَ ذَلِكَ‏.
فَهَذِهِ آثَارٌ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ فِي إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ جُمْلَةً‏.
وَيُؤْخَذُ مِنِ الْأَثَرِ الْأَخِيرِ مِنْهَا حِكْمَةٌ أُخْرَى لِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ مُفَرَّقًا حُكْمُهُ، فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَى قَبُولِهِ إِذَا نَزَلَ عَلَى التَّدْرِيجِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَزَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَإِنَّهُ كَانَ يَنْفِرُ مِنْ قَبُولِهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، لِكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالْمَنَاهِي‏.
وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏: إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ سُورَةٌ مِنَ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلُ شَيْءٍ: (لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ) لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا وَلَوْ نَزَلَ (لَا تَزْنُوا) لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا.
ثُمَّ رَأَيْتُ هَذِهِ الْحِكْمَةَ مُصَرَّحًا بِهَا فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ لِمَكِّيٍ‏.

.فَرْعٌ: أَنَّ الْقُرْآنِ كَانَ يَنْزِلُ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ:

الَّذِي اسْتُقْرِئَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَغَيْرِهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ كَانَ يَنْزِلُ بِحَسْبِ الْحَاجَة: خَمْسُ آيَاتٍ وَعَشْرُ آيَاتٍ وَأَكْثَرُ وَأَقَلُّ؛ وَقَدْ صَحَّ نُزُولُ الْعَشْرِ آيَاتٍ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ جُمْلَةً، وَصَحَّ نُزُولُ عَشْرِ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ (الْمُؤْمِنُونَ) جُمْلَةً، وَصَحَّ نُزُولُ {‏غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ‏} [النِّسَاء: 95] وَحْدَهَا؛ وَهِيَ بَعْضُ آيَةٍ‏. وَكَذَا قَوْلُهُ {‏وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً‏} [التَّوْبَة: 28] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، نَزَلَتْ بَعْدَ نُزُولِ أَوَّلِ الْآيَةِ كَمَا حَرَّرْنَاهُ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، وَذَلِكَ بَعْضُ آيَةٍ‏.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَشْتَةَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ {بِمَوَاقِعِ} [الْوَاقِعَة: 75] قَالَ‏: أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ نُجُومًا ثَلَاثَ آيَاتٍ، وَأَرْبَعَ آيَاتٍ، وَخَمْسَ آيَاتٍ‏.
وَقَالَ النِّكْزَاوِيُّ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ: كَانَ الْقُرْآنُ يَنْزِلُ مُفَرَّقًا، الْآيَةَ وَالْآيَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ وَالْأَرْبَعَ، وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ‏.
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَةَ، قَالَ‏: كَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ يُعَلِّمُنَا الْقُرْآنَ خَمْسَ آيَاتٍ بِالْغَدَاةِ وَخَمْسَ آيَاتٍ بِالْعَشِيِّ، وَيُخْبِرُ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ بِالْقُرْآنِ خَمْسَ آيَاتٍ، خَمْسَ آيَاتٍ‏.
وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَلْدَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ عُمَرَ قَالَ‏: تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ خَمْسَ آيَاتٍ خَمْسَ آيَاتٍ؛ فَإِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَنْزِلُ بِالْقُرْآنِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسًا خَمْسًا‏.
وَمِنْ طَرِيقٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ‏: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ خَمْسًا خَمْسًا إِلَّا سُورَةَ الْأَنْعَامِ، وَمَنْ حَفِظَ خَمْسًا خَمْسًا لَمْ يَنْسَهُ‏.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَعْنَاهُ- إِنْ صَحَّ- إِلْقَاؤُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الَقَدْرَ حَتَّى يَحْفَظَهُ، ثُمَّ يُلْقِي إِلَيْهِ الْبَاقِي، لَا إِنْزَالُهُ بِهَذَا الَقَدْرِ خَاصَّةً‏. وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ- أَيْضًا- «عَنْ خَالِدِ بْنِ دِينَارٍ، قَالَ‏: قَالَ لَنَا أَبُو الْعَالِيَة: تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ خَمْسَ آيَاتٍ، خَمْسَ آيَاتٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ جِبْرِيلَ خَمْسًا خَمْسًا‏».

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيةُ: فِي كَيْفِيَّةِ الْإِنْزَالِ وَالْوَحْيِ:

قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي أَوَائِلِ تَفْسِيرِه: اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُنَزَّلٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْإِنْزَال:
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ‏: إِظْهَارُ الْقِرَاءَةِ‏. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ‏: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْهَمَ كَلَامَهُ جِبْرِيلَ وَهُوَ فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ عَالٍ مِنَ الْمَكَانِ، وَعَلَّمَهُ قِرَاءَتَهُ، ثُمَّ جِبْرِيلُ أَدَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ يَهْبِطُ فِي الْمَكَانِ‏. وَفِي التَّنْزِيلِ طَرِيقَان: أَحَدُهُمَا‏: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْخَلَعَ مِنْ صُورَةِ الْبَشَرِيَّةِ إِلَى صُورَةِ الْمَلَكِيَّةِ وَأَخَذَهُ مِنْ جِبْرِيلَ‏.
وَالثَّانِي‏: أَنَّ الْمَلَكَ انْخَلَعَ إِلَى الْبَشَرِيَّةِ حَتَّى يَأْخُذَهُ الرَّسُولُ مِنْهُ وَالْأَوَّلُ أَصْعَبُ الْحَالَيْنِ. انْتَهَى.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ‏: لَعَلَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَلَقَّفَهُ الْمَلَكُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَلَقُّفًا رُوحَانِيًّا، أَوْ يَحْفَظُهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَيَنْزِلُ بِهِ إِلَى الرَّسُولِ وَيُلْقِيهِ عَلَيْهِ‏.
وَقَالَ الْقُطْبُ الرَّازِيُّ فِي حَوَاشِي الْكَشَّافِ: وَالْإِنْزَالُ لُغَةً بِمَعْنَى الْإِيوَاءِ، وَبِمَعْنَى تَحْرِيكِ الشَّيْءِ مِنَ الْعُلُوِّ إِلَى أَسْفَلَ، وَكِلَاهُمَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْكَلَامِ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ فِي مَعْنَى مَجَازِيٍّ: فَمَنْ قَالَ‏: الْقُرْآنُ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْزَالُهُ أَنْ يُوجِدَ الْكَلِمَاتِ وَالْحُرُوفَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى وَيُثْبِتَهَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ‏. وَمَنْ قَالَ‏: الْقُرْآنُ هُوَ الْأَلْفَاظُ، فَإِنْزَالُهُ مُجَرَّدُ إِثْبَاتِهِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَهَذَا الْمَعْنَى مُنَاسِبٌ لِكَوْنِهِ مَنْقُولًا عَنِ الْمَعْنَيَيْنِ اللُّغَوِيَّيْنِ‏. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ بِإِنْزَالِهِ إِثْبَاتُهُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا بَعْدَ الْإِثْبَاتِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِلْمَعْنَى الثَّانِي‏. وَالْمُرَادُ بِإِنْزَالِ الْكُتُبِ عَلَى الرُّسُل: أَنْ يَتَلَقَّفَهَا الْمَلَكُ مِنَ اللَّهِ تَلَقُّفًا رُوحَانِيًّا أَوْ يَحْفَظَهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَيَنْزِلُ بِهَا فَيُلْقِيهَا عَلَيْهِمُ. انْتَهَى‏.
وَقَالَ غَيْرُهُ‏: فِي الْمُنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا‏: أَنَّهُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، وَأَنَّ جِبْرِيلَ حَفِظَ الْقُرْآنَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَنَزَلَ بِهِ‏. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَحْرُفَ الْقُرْآنِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا بِقَدْرِ جَبَلٍ قَافٍ، وَأَنَّ تَحْتَ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا مَعَانِيَ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ‏.
وَالثَّانِي‏: أَنَّ جِبْرِيلَ إِنَّمَا نَزَلَ بِالْمَعَانِي خَاصَّةً وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ تِلْكَ الْمَعَانِي وَعَبَّرَ عَنْهَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَتَمَسَّكَ قَائِلُ هَذَا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {نزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} [الشُّعَرَاء: 193- 194].
وَالثَّالِثُ‏: أَنَّ جِبْرِيلَ أَلْقَى إِلَيْهِ الْمَعْنَى، وَأَنَّهُ عَبَّرَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَأَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ يَقْرَءُونَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ نَزَلَ بِهِ كَذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ‏.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {‏إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الَقَدْرِ‏} يُرِيدُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: إِنَّا أَسْمَعْنَا الْمَلَكَ وَأَفْهَمْنَاهُ إِيَّاهُ وَأَنْزَلْنَاهُ بِمَا سَمِعَ، فَيَكُونُ الْمَلَكَ مُنْتَقِلًا مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ‏.
قَالَ أَبُو شَامَةَ‏: هَذَا الْمَعْنَى مُطَّرِدٌ فِي جَمِيعِ أَلْفَاظِ الْإِنْزَالِ الْمُضَافَةِ إِلَى الْقُرْآنِ أَوْ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ، يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ الْمُعْتَقِدُونَ قِدَمَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.
قُلْتُ‏: وَيُؤَيِّدُ أَنَّ جِبْرِيلَ تَلَقَّفَهُ سَمَاعًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى: مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ مَرْفُوعًا «إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ أَخَذَتِ السَّمَاءَ رَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ، فَإِذَا سَمِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ السَّمَاءِ، صُعِقُوا وَخَرُّوا سُجَّدًا، فَيَكُونُ أَوَّلُهُمْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرِيلُ فَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ مِنْ وَحْيِهِ بِمَا أَرَادَ فَيَنْتَهِي بِهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، فَكُلَّمَا مَرَّ بِسَمَاءٍ، سَأَلَهُ أَهْلُهَا: مَاذَا قَالَ رَبُّنَا؟ قَالَ: الْحَقُّ. فَيَنْتَهِي بِهِ حَيْثُ أَمَرَ».
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: «إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ صَلْصَلَةً كَصَلْصَلَةِ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ، فَيَفْزَعُونَ وَيَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَمْرِ السُّرْعَةِ». وَأَصْلُ الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحِ‏.
وَفِي تَفْسِيرِ عَلِيِّ بْنِ سَهْلٍ النَّيْسَابُورِيّ: قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاء: نَزَلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً فِي لَيْلَةِ الَقَدْرِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتٍ يُقَالُ لَهُ: بَيْتُ الْعِزَّةِ، فَحِفْظَهُ جِبْرِيلُ، وَغُشِيَ عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ مِنْ هَيْبَةِ كَلَامِ اللَّهِ، فَمَرَّ بِهِمْ جِبْرِيلُ، وَقَدْ أَفَاقُوا، فَقَالُوا‏: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا‏: الْحَقَّ- يَعْنِي الْقُرْآنَ- وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِه: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سَبَأٍ: 23] فَأَتَى بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ، فَأَمْلَاهُ عَلَى السَّفَرَةِ الْكَتَبَةِ- يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ- وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {‏بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ‏} [عَبَسَ: 15- 16].
وَقَالَ الْجُوَيْنِيُّ‏: كَلَامُ اللَّهِ الْمُنَزَّلُ قِسْمَان:
قِسْمٌ قَالَ اللَّهُ لِجِبْرِيل: قُلْ لِلنَّبِيِّ الَّذِي أَنْتَ مُرْسَلٌ إِلَيْه: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: افْعَلْ كَذَا وَكَذَا، وَأَمَرَ بِكَذَا، فَفَهِمَ جِبْرِيلُ مَا قَالَهُ رَبُّهُ، ثُمَّ نَزَلَ عَلَى ذَلِكَ النَّبِيِّ وَقَالَ لَهُ مَا قَالَهُ رَبُّهُ، وَلَمْ تَكُنِ الْعِبَارَةُ تِلْكَ الْعِبَارَةَ، كَمَا يَقُولُ الْمَلِكُ لِمَنْ يَثِقُ بِه: قُلْ لِفُلَانٍ يَقُولُ لَكَ الْمَلِكُ: اجْتَهِدْ فِي الْخِدْمَةِ، وَاجْمَعْ جُنْدَكَ لِلْقِتَالِ. فَإِنْ قَالَ الرَّسُولُ: يَقُولُ الْمَلِكُ لَا تَتَهَاوَنْ فِي خِدْمَتِي وَلَا تَتْرُكِ الْجُنْدَ تَتَفَرَّقُ، وَحُثَّهُمْ عَلَى الْمُقَاتَلَةِ، لَا يُنْسَبُ إِلَى كَذِبٍ وَلَا تَقْصِيرٍ فِي أَدَاءِ الرِّسَالَةِ‏.
وَقِسْمٌ آخَرُ قَالَ اللَّهُ لِجِبْرِيلَ‏: اقْرَأْ عَلَى النَّبِيِّ هَذَا الْكِتَابَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ. كَمَا يَكْتُبُ الْمَلِكُ كِتَابًا وَيُسَلِّمُهُ إِلَى أَمِينٍ، وَيَقُولُ: اقْرَأْهُ عَلَى فُلَانٍ، فَهُوَ لَا يُغَيِّرُ مِنْهُ كَلِمَةً وَلَا حَرْفًا. انْتَهَى.
قُلْتُ‏: الْقُرْآنُ هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ هُوَ السُّنَّةُ، كَمَا وَرَدَ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَنْزِلُ بِالسُّنَّةِ كَمَا يَنْزِلُ بِالْقُرْآنِ. وَمِنْ هُنَا جَازَ رِوَايَةُ السُّنَّةِ بِالْمَعْنَى; لِأَنَّ جِبْرِيلَ أَدَّاهُ بِالْمَعْنَى، وَلَمْ تَجُزِ الْقِرَاءَةُ بِالْمَعْنَى؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ أَدَّاهُ بِاللَّفْظِ، وَلَمْ يُبِحْ لَهُ إِيحَاءَهُ بِالْمَعْنَى‏.
وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّعَبُّدُ بِلَفْظِهِ وَالْإِعْجَازُ بِهِ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِلَفْظٍ يَقُومُ مَقَامَهُ. وَأَنَّ تَحْتَ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ مَعَانِيَ لَا يُحَاطُ بِهَا كَثْرَةً، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بَدَلَهُ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، وَالتَّخْفِيفُ عَلَى الْأُمَّةِ حَيْثُ جَعَلَ الْمُنَزَّلَ إِلَيْهِمْ عَلَى قِسْمَيْن: قِسْمٌ يَرْوُونَهُ بِلَفْظِهِ الْمُوحَى بِهِ، وَقِسْمٌ يَرْوُونَهُ بِالْمَعْنَى‏، وَلَوْ جُعِلَ كُلُّهُ مِمَّا يُرْوَى بِاللَّفْظِ لَشَقَّ، أَوْ بِالْمَعْنَى لَمْ يُؤْمَنِ التَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ، فَتَأَمَّلْ‏.
وَقَدْ رَأَيْتُ، عَنِ السَّلَفِ مَا يُعَضِّدُ كَلَامَ الْجُوَيْنِيِّ‏.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ عَقِيلٍ، عَنِ الزُّهْرِيّ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْوَحْيِ، فَقَالَ‏: الْوَحْيُ مَا يُوحِي اللَّهُ إِلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَيُثْبِتُهُ فِي قَلْبِهِ، فَيَتَكَلَّمُ بِهِ وَيَكْتُبُهُ، وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ‏.